(في إنتظار غودو)
على خشبة مسرح "باربيكان" اللندني
(حزمة ُشظايا لمرآة مهشمّة)
(لا شيء يحدث، لا أحد يأتي، لا أحد يذهب. هذا شيء رهيب)
إيستراغون
لقد ُكتب الكثير عن هوية غودو، إلا أن الرؤية الأكثر عمقاً ودلالة هي تلك التي تؤكد على أن غودو هو ما نعتقده شيئاً آخر غير الذي نعتقده!.
إنه "الغائب" الذي يمكن تأويله على أنه "الخالق" أو ربما "الموت"، ومن الممكن أيضاً أن يكون المستبد بوزو نفسه. ومع ذلك فإن لغودو وظيفة أخرى أكثر من كونه يشكل دلالة محددة، فهو الوهم الذي يبقنا مقيدين بهذا الوجود، وهو الشيء الذي لاسبيل إلى معرفته.
غودو هو صورة وهمية أو خيال لما نريده نحن أن يكون، طالما أن بإستطاعته أن يسّوغ حياتنا كحالة من الأنتظار. ربما هو "الأنتظار" نفسه ومن الممكن أيضاً أنه يمثل "الأمل" في زمن لاأمل فيه.
الأمل يتشيد هنا كشكل من أشكال الخلاص مُجسّداً بشخصية غودو أو ربما بالشخصيتين بوزو ولاكي أو.. بالموت نفسه. لكن حين يصبح الأمل مقترحاً مستحيلاً عندئذ تصبح ثيمة المسرحية نموذجاً لكيفية تزجية الوقت (الحياة)!.
حين يحاول إيستراغون نزع حذائه ويفشل في قيامه بذلك يعّلق قائلاً:"ليس ثمة شيء يمكن عمله"، وحين يسمع صديقه فلاديمير تلك العبارة بالصدفة لايعزو دلالاتها لصعوبة خلع الحذاء، بل لمآزق أخرى تتعلق بحياة إيستراغون الخاصة فيعلق قائلاً:"لقد بدأت أقتنع بهذه الفكرة"، مستخدماً ذات العبارة فيما بعد في مأزقه مع قبعته بنفس الدلالة التي كان يعنيها إيستراغون.
عبارة "ليس ثمة شيء يمكن عمله" جوهرياً، هي توصيف كامل ومختزل لمفهوم اليأس. لذا فإن النتيجة المنطقية لتفكيرهما معاً ستكون حتماً إتباع سلوك يقصيهما عن التفكير، شيء ما يشغلهما عن ذلك كاللعب أوالتسلية أو إختلاق حكايات وأفكار ملفقة من أجل تمضية الوقت. لذا من الممكن إفتراض أن حتى حكاية غودو نفسها ربما هي حكاية ملفقة إختلقاها لأضفاء مغزىً ما على حياتهما، حيث العبرة ليس في مجىء غودو إنما في مواصلة الأنتظار.
***
المسرحية مشيّدة من فصلين متماثلين ومكررّين يحدثان في يومين متعاقبين. في شارع ريفي وبالقرب من شجرة جرداء يجلس مشرّدان أحدهما يدعى فلاديمير (ديدي) والآخر إيستراغون (غوغو) بإنتظار شخص يدعى غودو. إنهما لم يرونه من قبل وحتى لو رأوه فلن يعرفانه، ومع ذلك فهما يعتقدان أنه هو من رتبّ لهما هذا اللقاء وفي هذا المكان!.
في منتصف النهار يصل شخصان غريبا الأطوار، سيد وعبده، الأول يدعى بوزو والآخر لاكي. يظن المشردان في البدء أن السيد بوزو هو غودو، إلا أن ذلك الظن يتبدد حالما يخبرهما أنه صاحب هذه الأرض التي يقفان عليها الآن.
يسحب السيد خادمه لاكي بواسطة حبل ُعّلق برقبته آمراً إياه أن يجلب له الطعام. يُحضر لاكي له دجاجة فيبدأ بوزو بإلتهام الدجاجة ورمي عظامها إلى لاكي. بعدها يخبرهما أنه ذاهب إلى السوق لبيع خادمه لاكي ويغادران.
يصل صبي في آخر النهار ويخبرهما أن السيد غودو لم يستطع الحضور هذا المساء، إلا أنه سيحضر في الغد حتماً.
في صباح اليوم التالي يعود بوزو ولاكي ثانية وقد أصبح الأول ضريراً والثاني أخرس. السيد يصبح عبداً والعبد سيداً!. (تبادل أدوار)..
يظهر الصبي ثانية في المساء مكرراً عليهما جملته السابقة ذاتها، شاجباً مايقولانه أنه جاء إلى هنا في الأمس أو كان إلتقى بهما من قبل.
في النهاية يقطع المشردان عهداًعلى نفسيهما في المغادرة والعودة ثانية لإنتظار غودو:
فلاديمير: حسناً، هل ينبغي علينا أن نغادر الآن؟
إيستراغون: نعم، هيا بنا.
(يتسمران في مكانهما)
***
(العادة بلادة كبرى)
كان بيكيت قد فكرّ في نسخته الأولى للمسرحية أن يكون عنوانها (إنتظار) فقط، من دون غودو، لأجل صرف إنتباه المتفرج عن هذه الشخصية الملتبسة غودو، لينشغل في موضوع الأنتظار، آملاً من ذلك، أي بيكيت، أن لاينهمك متفرجه في التركيز على أية شخصية في المسرحية قدر أن يفكر في كيف أن وجودنا كله هو عبارة عن إنتظار.
في رواية "الطاعون" يستنتج البير كامو إلى أن السأم، هو محصّلة لفعل الأنتظار، وكلاهما نتاج واحد لأنهيار العقل والجسد معاً سببه الروتين والعادة، ما يدفع بالمرء إلى أن يفكر ويتأمل هويته الذاتية بشكل جاد، تماماً مثلما يفعل ديدي وغوغو في المسرحية. هذه الفكرة تكاد تتماهى تماماً وموضوعة "التأمل" الذي هو نشاط راكد يسمح للمرء في أن يفكر بصفاء.
الأنتظار هو تهكم صارخ لفعل وجودي غير مبرّر أو مجدي ولن يأتِ بشيء، فبدل غودو المنتظر يأتِ بوزو الأعمى يقوده عبده الأخرس. أعمى وأخرس.!
إن هدف إنتظار فلاديمير وإيستراغون لغودو "الذي لن يصل مطلقاً" هو أن يضعا نظاماً أو منهجاً لحياتهما، إلا أنهما يخمدان شيئاً فشيئاً وسط لاجدوى ذلك الأنتظار مكررّين جملة واحدة تصبح أشبه باللازمة:"ليس ثمة شيء يمكن عمله".
فلاديمير نفسه يصل إلى قناعة راسخة من أن الوجود هو شي غير مجدي:
فلاديمير: كنت أحاول طوال حياتي أن أكفّ عن ذلك، لكنني مع ذلك بقيت مستأنفاً معركتي. إيستراغون: وكيف تورطنا في هذه القضية؟.
فلاديمير لايجيب بالطبع على سؤال كهذا.
بيكيت يحاول هنا أن يوصل خطاباً مفاده إن التفكير في الأسئلة التي يصعب الأجابة عنها والتي تبرز كمحّصلة لفعل الأنتظار يُنتج الألم والقلق وتعطيل فعالية الأنسان وتحطيمه من الداخل.
إن شخصياته ينبغي عليها أن تواصل إنتظارها للشيء الذي لن يأتِ مطلقاً، تماماً مثل لاجدوى معاودة حمل سيزيف لصخرته مرات ومرات ومرات، إلا أنها، أعني شخصياته، مع ذلك تظل تنتظر وتنتظر حتى اللحظة الأخيرة للسقوط في هوة الشيخوخة والخرف، المرحلة التي تقزّم تلك الشخصيات وتضاعف من بؤسها وعجزها وتبعيتها في الآخِر.
الأنتظار في مفهوم بيكيت هو ليس فراغاً بل فعالية متعاقبة، من الممكن أن تكون فعلاً غريزياً أو ربما فعلاً عقيماً، وكل ذلك يتوقف على إدراك المرء له. والأنتظار، بالنسبة لبيكيت نفسه يصبح أيضاً أسلوباً للحياة، فهو إنتظار للإلهام، إنتظار للمعرفة، إنتظار للأدراك أو ربما إنتظار... للموت.
بيكيت يؤمن أن الناس يحاولون أن يخففوا عنهم عبء أوجاع الحياة والوجود عن طريق العادة. فمفهوم "العادة" شيء جوهري بالنسبة للوجود الإنساني، وهو الأساس الذي شيد عليه سارتر نفسه وجهة نظره التي تزعم أن
... الناس هم بحاجة إلى أساس عقلي أو منطقي لحياتهم غير أنهم غير قادرين على تحقيق ذلك، ولهذا تجد إن حياتهم هي معاناة متواصلة وعقيمة).
فلاديمير وإيستراغون يسعيان لأقامة مثل هذه القاعدة المنطقية أو العقلية لحياتهما عبر الأنتظار،إلا أنهما غير قادرين على تحقيق ذلك، ومن هنا تنشأ معاناتهما العقيمة.
إن قوانين الذاكرة، حسب بيكيت، تخضع للقوانين الأكثر عمومية لمفهوم العادة، وهو يحس أن العادة هي الدرع الذي يحمينا من الأشياء التي لايمكن التنبؤ أو التحكم بها.
في بحثه عن بروست، كتب يقول:
(العادات هي نوع من التسوية أو حلاً وسطاً بين الفرد والبيئة (...) إنها تلك الصفقات التي توفر ضمانات مادية وروحية لكبح تخطي المحرمات البليدة والمضجرة وإنتهاكها. العادة هي أشبه بالسلسلة التي تثقل رقبة الكلب وتدفعه للتقيؤ.
التنفس عادة.. الحياة نفسها عادة أو بالأحرى سلسلة متعاقبة من العادات، طالما أن الفرد نفسه هو سلسلة من الأفراد المتعاقبين، ذلك لأن خلق العالم لايحدث مرة واحدة وإلى الأبد، لكنه يحدث كل لحظة)..
فلاديمير يعبرّ عن هذه الفكرة بجلاء في نهاية المسرحية قائلاً: "العادة هي بلادة كبرى"، موحياً أن العادة بالنسبة للأنسان هي بمثابة الدواء المّسكن للألم.
(العوامل الكابحة للتفكير)
المسرحية هي أشبه بطقس يمارسه هذين المشردين لملأ فجوات الفراغ والصمت:"إن ذلك سيُمضي الوقت" يقول فلاديمير مقترحاً أن يروي لإيستراغون قصة صلب السيد المسيح. الشيء الوحيد الذي يستحوذ على تفكير الأثنين إذاً هو تزجية الوقت:
فلاديمير: إن ذلك سيُمضي الوقت.
إيستراغون: الوقت سيمضي في كل الأحوال.
فلاديمير: نعم ولكن ليس بسرعة.
إيستراغون، الذي كان يعارض مثل هذه الفكرة في البدء، ينضم إلى هذه اللعبة فيما بعد مقترحاً:"هذه فكرة جيدة، دعنا إذاً نجري محادثة بيننا".
بيكيت في هذه المسرحية يستخدم صيغ (السؤال والجواب والتكرار) في محادثات كهذه بديلاً تهكمياً لتلك المحادثات المترهلة والمبتذلة التي كانت تثقل ما كان يعرف حينها بـ"المسرحية جيّدة الصنع"، فطالما أن موضوعه المركزي هو السأم والأنتظار، وأن شخصياته لاتمتلك ذلك التأريخ الطويل أو المرّكب، تجده يستغني تماماً عن شيء إسمه الحبكة.
إن مايدفع هذان المشردان إلى الحديث المبتذل تارة والفلسفي تارة أخرى، هو العدم والفراغ الذي يقاتلانه ببطء.
بيكيت يحاول هنا أن يقيم نوعاً من المقارنة بين فعل السكون وفعل الحيوية مؤكداً أن الحيوية تقوّض عملية التفكير، وأن هذه الأخيرة لايمكن أن تنشأ إلا عبر حالة من السكون أو الخمول فقط:
إيستراغون: نحن غير قادرين على البقاء صامتين.
فلاديمير: أنت على حق، فنحن لانتعب ولانكل.
إيستراغون: لاتنسى إن الحديث يجنبنا التفكير أيضاً.
(الصمت البليغ)
الصمت والوقفات عنصران جوهريان في دراما بيكيت، فقد مكنه عنصر الصمت مثلاً من أن ُيظهر (العجز) الذي يلم بالشخصيات حين لا تستطيع العثور على الكلمات التي هي بحاجة إليها للتعبير عنه، كذلك يُظهر (الكبح والإخضاع) حين يصيبها الخرس من هول موقف محاوريها أو بسبب إحساسها أنها ربما بذلك ستنتهك التابو الأجتماعي.
إنه صمت حدس الشخصية وهي في إنتظار إستجابة الآخر كنوع من العزاء ربما يمنحها إحساس مؤقت بالوجود.
إن ثمة فترات من الصمت تقطع مجرى المحادثات أثناء سيرها لسد تلك الثغرات التي تتوسط الكلمات، وتبدو فترات الصمت تلك أيضاً كما لو أنها تشكل نوعاً من التعبير عن الفقدان، الفراغ، الوحدة.. إلخ. هذا التناقض بين الصمت والكلام يمكن أن يعكس هنا الأحساس بالتوازن في الكون.
سقوط حديث العبد لاكي في هوة الصمت يمكن أن يعطينا إنطباعاً جلياً عن الأستجابة القصوى لبيكيت نفسه إزاء الفوضى والعشوائية واللامعنى للكون: الصمت.
أما الوقفات فوظيفتها أنها تترك حيزاً وزمناً للقارىء أو المتفرج ليستكشف ويسبر تلك المساحات الفارغة بين الكلمات، ليتدخل هو نفسه حينها، إبداعياً وشخصياً، في تأسيس أو ترسيخ مغزىً ما للمسرحية.
(الزمن بمنظوره البيكيتي)
إذا كان كل يوم هو شبيه ببقية الأيام فكيف يمكننا التمييز إذاً أن الزمن يمضي حقاً وأن النهاية قريبة؟
غودو ُيعلل بوعد زمني في الوصول لن يحدث مطلقاً، ومع ذلك فهذا معناه أن الشخصيات وهي في توقها للقاءه تتطلع نحو مستقبل ما. لكن، طالما لايوجد ثمة ماض، أو أن هذا الماضي لايتضمن سوى نوستالجيا مجردة، فمن الممكن جداً أن لاوجود للحاضر أصلاً وبالتالي لاوجود حتى للمستقبل.
لذا ومن أجل أمكانية ما للظن بمستقبل لاوجود له، فإن الشخصيات والحالة هذه هي بحاجة إلى إختلاق ماض ٍ ما لنفسها وذلك عن طريق تلفيق القصص.
في هذه المسرحية يعبّر بيكيت عن الزمن بـ (الوهم) أو (السرطان) كما يسميه، ذاك الذي يضلل البشر بكذبة أنهم في تقدم متواصل فيما هو في الواقع ينخرهم من الداخل!.
فلاديمير وإيستراغون ينتهوا مثلما بدأوا دون أي تقدم في الزمن إلا من ورقتين أو ثلاثة أوراق قد نمت على غصن الشجرة في الفصل الثاني، التي يمكن أن ترمز إلى الأمل، إلا أن الشيء الأكثر منطقياً هو أنها ترمز إلى المرور الوهمي للزمن.
في بحثه عن بروست يكتب بيكيت:".. الزمن شرط خطير ولدنا من أجله، فهو من يغيرنا بشكل متواصل دون معرفتنا، وفي الآخِر يقتلنا دون موافقتنا".
الزمن هنا ينحت في ذاكرة إيستراغون ويسبب إنحساراً في طاقة كلا الشخصيتين. الزمن أيضاً يقوّض صورة المستبد في بوزو ويجرده من كل الأشياء تقريباً.
إن معاناة بيكيت المريرة من الزمن تتجلى تماماً في كلام بوزو وهو يخاطب المشردين قائلاً:
"متى!. ألم تكتفيا بتعذيبي بوقتكما الملعون هذا. أمر فظيع. متى! متى! متى!. يوم ما، يوم كغيره من الأيام.
يوم أصبحَ هو أخرس ويوم أصبحتُ فيه أعمى ويوم سنصبح جميعنا بُكم. ذات يوم ولدنا وذات يوم سنموت. اليوم ذاته واللحظة ذاتها. ألا يكفيكما هذا. إن النساء يلدن أطفالهن والقبر مفتوح تحت سيقانهن. وهكذا، يتلألأ الضوء لحظة ثم يأتي الليل ثانية".
المسرحية ذاتها تتضمن فصلين هما عبارة عن دورتين من الزمن، مرآتين تعكسان بشكل لانهائي صورة واحدة.
الزمن الطولي يتحطم هنا ليحل بدله زمناً دائرياً أو أستطيع القول زمناً سوريالياً.
الصبي يعود مرتين ليكرّر عليهما أن غودو لن يعود اليوم. فلاديمير نفسه يقول:"إن الزمن قد توقف".
إن الترميز إلى الزمن يتثبت أيضاً عبر الظهور المتكرر لبوزو وتابعه لاكي اللذان يصلان كسيد وعبد في الفصل الأول ثم يتبادلان الأدوار في الفصل الثاني حيث يظهر لاكي وقد أصابه الخرس يقود سيده بوزو الذي أصبح ضريراً بحبل مشدود برقبته.
إيستراغون نفسه لايستطيع مثلاً أن يتذكر فيما إذا كان الناس الذين ضربوه اليوم هم ذات الناس الذين ضربوه في الأمس.
بوزو ينسى متى أصبح ضريراً ولاكي لايعرف متى أصبح أخرساً، رغم أننا نعرف أنهما كانا يبصران ويسمعان ويتكلمان يوم أمس.
ينبغي أن نتذكر هنا كيف أن بوزو كان قلقاً ومهموماً بشأن الوقت وكيف أنه غالباً ما كان يرجع لساعته وبشكل إستحواذي في الفصل الأول، وكيف شعر بالفزع حين فقدها. حين يفقد بوزو بصره في اليوم الثاني يبدأ ولأول مرة يدرك كيف أن الوقت الآن لامعنى له.
حسناً، إذا كان الوقت بلا معنى فلابد من البحث عن طريق لتزجيته:"دعنا نختلق لعبة" يقول إيستراغون لفلاديمير.
إنهما يبتكران طرقاً متعددة لتبديد هذا الوقت عن طريق تناول الطعام مثلاً أو النوم نوماً خفيفاً أو الحلم أو حتى شتم بعضهما البعض أو إبتكار ألعاب بما يتوافق مع مزاجهما وحاجتهما.
إن إبتكار لعبة هي واحدة من مهّمات الممثل: دعنا نمّثل! هذا هو المقصود. وبيكيت يحاكي بشكل ساخر هنا فن التمثيل في المسرح.
هذا اللعب الطفولي لفلاديمير وإيستراغون يمكن رؤيته أيضاً كنوع من محاكاة ساخرة لكيفية شعور بيكيت بلا جدوى معظم العلاقات الأجتماعية.
من الممكن بالطبع إقامة علاقات إجتماعية في حياتنا، لكن من الممكن جداً أن تكون تلك العلاقات مؤذية أو بدون معنى. إذاً ماجدوى من قيامنا بعلاقات كهذه؟
بيكيت يعلل ذلك من أننا ببساطة لانستطيع إحتمال فكرة أن نبقى وحيدين!.
فلاديمير وإيستراغون أحدهما بحاجة إلى الآخر، وهذا مايمكن أن نحسه من خلال الحنو والرقة التي يتبادلانها.
إنهما بحاجة إلى بعضهما البعض كصديقين، كغوث أو عون من رعب الوحدة، وأيضاً كشهود كل منهما يشهد بوجود الآخر، أما عكس ذلك فكل مايحدث هو بوضوح مجرد إختلاق من مخيلتيهما لاغير.
لاشك أن الزمن يشكل عنصراً هاماً في دراما بيكيت فهو يمضي ويأبى أن يمضي بسرعة كافية، إلا أن الطريقة التي ُيظهر فيها بيكيت شخصياته ضمن دائرة هذا الزمن تظهرهم كما لو أنهم يحيون في عالم يخلو فيه الزمن من أية دلالة، ففيه يصبح الناس كما يبدو عمياناً أو بُكماً بغتة وليس بمقدورهم حتى أن يتذكروا متى أصبحوا كذلك.
بروست يعتقد أن:"... الذكريات السليمة عن الماضي تساعد الأنسان على تنظيم أفعاله في الزمن الحاضر والتأثير عليها تأثيراً فعالاً".
في مسرحية "شريط كراب الأخير"، ثمة رجل يتحدث مع أشرطة صوتية كان سّجلها بصوته قبل ثلاثين عاماً، تلك الأشرطة تصبح أكثر إضاءة وواقعية من الحاضر نفسه بالنسبة له.!
إن المعلومات المتعارضة بشأن أحداث الماضي ُتعطى للمتفرج بشكل متواصل، لهذا تجده في حالة من الإرباك بشأن وقت حدوثها أو هل أنها حدثت حقاً أثناء وجود الشخصيات على المسرح.
هذا بالطبع فعل متعمد أو مقصود من بيكيت لأن الزمن بالنسبة له هو عبارة عن وهم، فكل شيء يتغير، لكنه يبقى كما هو!.
بكلمة أخرى، إن الزمن يظهر بلا ريب كقوة تدركها الشخصية، لكي تتداعى وتضمحل أكثر فأكثر، ذلك لأن ليس ثمة جدوى من إستمرارها في الوجود.